مدينة بغداد كانت تزهو في ليلة الخميس من كل أسبوع وهي عادة قديمة تشير إلى التفاؤل وبهذه الليلة كونها مباركة لأنها تسبق نهار الجمعة حيث العطلة الأسبوعية ولكونه اليوم المبارك في الدين الإسلامي ويتميز عن بقية أيام الأسبوع لتفرده بطقوس محددة مثل صلاة الجمعة ذات المكانة الخاصة لدى الله عز وجل وطبقاً للسنة النبوية الشريفة..
وأيضاً يوم الجمعة هو اليوم المفضل لإجراء عمليات الختان للصغار والاعتبارات أيضاً دينية.. كان أهل بغداد القدامى يستعينون بفرق الموسيقى الشعبية لإضفاء طابع الفرح والابتهاج على المناسبتين انفي الذكر.. هذه الفرق الموسيقية كانت تنتظر بفارغ الصبر اليومين المباركين لأنهما يشكلان العمود الفقري للعازفين من حيث توفير المردود المالكي المناسب للإنفاق على عوائلهم وأيضاً مستلزمات أيجار محلات أو مكاتب يتخذوها كمقرات دائمة لهم.. وأهل بغداد القدامى يعرفون أن مقرات هذه الفرق تتركز بالنسبة لجانب الرصافة في منطقتي (الفضل وفضوة عرب) وقد كانتا وما تزالان من أشهر مناطق بغداد الشعبية ذات الكثافة السكانية العالية.
أما في جانب الكرخ فمقرات هذه الفرق تتركز في مقاهي خاصة بمنطقة علاوي الحلة.. وعادة فأن هذه الفرق تحمل أسماء أصحابها أو أسماء أخرى مثل (الأفراح، الوردة البيضاء، ليالي الفضل .. الخ)..
أما الآلات الموسيقية فتتآلف من أبواق هوائية نحاسية مختلفة الأحجام إضافة إلى الطبول الكبيرة التي تعلق بواسطة الأحزمة حول الرقبة فيما يتم القرع بواسطة كرات خشبية مرتبطة بأعواد طويلة تمسك عن طريق اليدين.. وطبعاً لا تخلو هذه الفرق من عازفي الصاجات النحاسية الكبيرة التي تضفي على لأجواء إيقاعات صاخبة بين فينة وأخرى..
أما المقطوعات الموسيقية فأنها تناسب المناسبات السعيدة وتعتمد على المقدمات اللحنية لأشهر الأغاني الشعبية المتداولة على المقدمات اللحنية لأشهر الأغاني الشعبية المتداولة في مثل هذه المناسبات... وعادة فأن الفرقة الشعبية الواحدة ترتبط بالعديد من الحفلات على مدى يومي الخميس والجمعة وهكذا ينبغي عليها وضع جدول زمني يتيح لها التنقل من أجل أحياء العديد من الحفلات لتعويض عن بقية أيام الأسبوع..
توجهنا إلى منطقة الفضل لمعرفة المزيد عن أحوال وأوضاع الفرق الموسيقية الشعبية.. وكان لنا لقاء مع إبراهيم صالح (65 عاماً) صاحب فرقة (الأنوار) الذي قال أن الفرق الشعبية تشكو من قلة العمل بل ما يشبه الكساد لأن التطور التكنولوجي وخاصة في الجوانب الفنية الموسيقية ألغى الحاجة إلى خدماتهم في المناسبات السعيدة وأخذت العوائل تستعين بما يسمونه بفرق الــ(دي جي) المتواضعة وكذلك بالتسجيلات الموسيقية التي تعوض عن خدمات الموسيقى الشعبية.
ويضيف إبراهيم صالح: لقد بدأت بمزاولة هذا العمل منذ منتصف الستينيات من القرن الماضي الفترة الذهبية للفرق الشعبية وكانت الحجوزات تنهال علينا إلى درجة أننا كنا وفي أحيان كثيرة نتعذر عن الارتباط بسبب كثرة الالتزامات وصعوبة التوفيق بينها جميعاً.. وعن المدة التي يتم الاتفاق بشأنها مع أصحاب الفرق يوضح أنها عادة لا تتجاوز الساعة الواحدة وأحياناً أقل من الساعة وكل شيء يعتمد على الاتفاق بين الطرفين وطبقاً للفترة التي يرغب بها أصحاب المناسبة.
أما نافع شكر (54 عاماً) وهو صاحب فرقة تحمل أسمه الشخصي فأنه بدوره شكا من شحة الموارد بسبب تراجع الاستعانة بالفرق الموسيقية الشعبية في المناسبات السارة بعد أن كانت هذه المناسبات تعتمد تماماً على مشاركتها ووجودها وباعتبارها فعالية أساسية لا يمكن الاستغناء عنها لإتمام حفلات الزفاف والختان.. وحمل بدوره توفر التسجيلات الموسيقية عن طريق الأجهزة الالكترونية الحديثة مسؤولية اختفاء الفرق الشعبية وتراجع دعوتها لإضفاء الطابع الاحتفالي على المناسبات السعيدة.
في منطقة فضوة عرب القريبة من الباب الشرقي التقينا الحاج فاضل المفرجي (88 عاماً) الذي يعتبر صاحب أقدم فرقة موسيقية شعبية بل هو عميد العازفين لأنه أرتبط بالعمل عازفاً على البوق منذ منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي.. يقول الحاج فاضل المفرجي أنه عشق هذه المهنة منذ الصغر وأتخذها مصدراً وحيداً للرزق وللإنفاق على عائلته وأولاده.. ويضيف: كنا في الأربعينيات والخمسينيات وحتى نهاية الستينيات أي على امتداد ثلاثة عقود نشكل جزء مهماً من الحياة البغدادية بأفراحها وأحزانها لأنه كان للفرق الموسيقية الشعبية دورها أيضاً في حالات الوفاة وخاصة رحيل البعض في سن الشباب وقبل الزواج.. ويوضح كانت الفرق الموسيقية الشعبية تستدعى لأداء ألحان ومقطوعات حزينة لإضفاء الطابع المأساوي المؤثر على الموكب الجنائزي المهيب... ويشير أيضاً إلى أن فرق الموسيقى الشعبية كانت تشارك أيضاً في الاحتفالات التي ترافق عودة حجاج بيت الله من الديار المقدسة وكان ذلك جزءاً متمماً لا يمكن الاستغناء عنه في احتفالات العودة إلى جانب أفراد العائلة والأهل والأصدقاء.. كما كان الكثيرون من العوائل الميسورة مادياً يستعينون بالفرق الشعبية عند احتفالهم بنجاح أبناءهم من مرحلة الابتدائية إلى المرحلة المتوسطة، وهكذا.
سألنا الحاج فاضل المفرجي عن أشهر المناسبات التي شارك فيها ضمن عشرات الفرق البغدادية بالألحان الحزينة عند تشييع جنازة المغفور له الملك غازي عام 1939.
لقد كان مشهداً لا يمكن أن يطوله النسيان فقد اختلطت أصوات بكاء ونحيب البغداديين رجلاً ونساءً مع أصوات الموسيقى الجنائزية لتضفي على موكب التشييع الأسطوري مشهداً من الحزن واللوعة والأسى العميق على رحيل ملك العراق وهو في عنفوان شبابه.. وبعيداً عن الأحزان فقد شارك فاضل المفرجي على رأس فرقته الموسيقية في الاحتفالات الكبيرة التي عمت مدينة بغداد لمناسبة تتويج المرحوم الملك فيصل الثاني في مايس عام 1953.. يتذكر كيف أن الملك فيصل الثاني كان يحيي الجميع والابتسامة تعلو وجهه المشرق فيما يقف على جانبه خاله الوصي على العرش الأمير عبد الإله.
أيام لن تعود ولن تتكرر، هكذا يقول الحاج فاضل الفراجي وهو يتحسر على الأمس الجميل حيث يأخذه الحنين الجارف إلى سنوات شهدت أمجاد الفرق الموسيقية الشعبية.. تترقرق الدموع في عينية ويحتضن آلاته الموسيقية القديمة التي تتجاوز أعمارها النصف قرن وكأنه يحتضن أحفاده الصغار بكل حنان ورقة وعاطفة جياشة ولسان حاله يقول:
لكل زمن عاداته وتقاليده وحكاياته وأدواته الفنية في المناسبات المختلفة.. وهكذا علينا القبول بالمتغيرات رغم مرارتها وقسوتها أحياناً ولكنه حكم الزمن ..أنه حكم القوي..